فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

قوله تعالى: {إذا جاءَ نَصْرُ اللهِ والفتحُ}
أما النصر فهو المعونة مأخوذ من قولهم قد نصر الغيث الأرض إذا أعان على نباتها ومنع من قحطها، قال الشاعر:
إذا انسلَخَ الشهرُ الحرامُ فَودِّعي ** بلادَ تميمٍ وانْصُري أرضَ عامِرِ

وفي المعنيّ بهذا النصر قولان:
أحدهما: نصر الرسول على قريش، قاله الطبري.
الثاني: نصره على كل من قاتله من أعدائه، فإن عاقبة النصر كانت له.
وقيل: إذا جاء نصره بإظهاره إياك على أعدائك، والفتح: فتحه مكة وقيل المراد حين نصر الله المؤمنين وفتح مكة وسائر البلاد عليهم. وإنما عبر عن الحصول بالمجيء تجوزًا للإشعار بأن المقدرات متوجهة حين إلى أوقاتها المعينة لها، فتعرف منها شيئًا فشيئًا، وقد قرب النصر من قوته فكن مترقبًا لوروده مستعدًا لشكره.
وفي هذا الفتح قولان:
أحدهما: فتح مكة، قاله الحسن ومجاهد.
الثاني: فتح المدائن والقصور، قاله ابن عباس وابن جبير، وقيل ما فتحه عليه من العلوم.
{ورأيْتَ الناسَ يَدْخُلون في دِيْنِ اللهِ أَفْواجًا} فيهم قولان:
أحدهما: أنهم أهل اليمن، ورورى عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدين يمانٍ والفقه يمانٍ والحكمة يمانية» وروي عنه عليه السلام أنه قال: «إني لأجد نَفَس ربكم مِن قِبل اليمن» وفيه تأويلان:
أحدهما: أنه الفرج لتتابع إسلامهم أفواجًا.
الثاني: معناه أن الله تعالى نفس الكرب عن نبيه بأهل اليمن، وهم الأنصار.
القول الثاني: أنهم سائر الأمم الذين دخلوا في الإسلام، قاله محمد بن كعب.
وقال الحسن: لما فتح الله على رسوله مكة، قالت العرب بعضهم لبعض: أيها القوم ليس لكم به ولا بالقوم يد، فجعلوا يدخلون في دين الله أفواجًا أمة أمة.
قال الضحاك: والأمة أربعون رجلًا، وقال ابن عباس: الأفواج (الزمر)، وقال الكلبي: الأفواج القبائل.
وروى جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ الناس دخلوا في دين الله أفواجًا وسيخرجون أفواجًا».
{أفواجًا} جماعات كثيفة كأهل مكة والطائف واليمن وهوازن وقبائل سائر العرب.
{يدخلون} حال، على أن {رأيت} بمعنى أبصرت، أو مفعول ثان على أن رأيت بمعنى علمت.
{فسبّحْ بحْمد ربِّك واسْتَغْفِره إنه كان توّابًا} في أمره بهذا التسبيح والاستغفار وجهان:
أحدهما: أنه أراد بالتسبيح الصلاة، قاله ابن عباس، وبالاستغفار مداومة الذكر.
الثاني: أنه أراد صريح التسبيح، الذي هو التنزيه والاستغفار من الذنوب.
روت عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية يكثر أن يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك، فقلت: يا رسول الله ما هذه الكلمات التي أراك أحدثتها؟ فقال:
«جعلت لي علامة في أمتي إذا رأيتها قلتها»
وفي قوله: {إنه كان توّابًا} وجهان:
أحدهما: قابل التوبة.
والثاني: متجاوز عن الصغائر.
وفي أمره بهذابعد النصر والفتح وجهان:
أحدهما: ليكون ذلك منه شكرًا لله تعالى على نعمه، لأن تجديد النعم يوجب تجديد الشكر.
الثاني: أنه نعى إليه نفسه، ليجد في عمله.
قال ابن عباس: وداعٌ من الله، ووداعٌ من الدنيا، فلم يعش بعدها إلا سنتين مستديمًا التسبيح والاستغفار كما أُمِرَ، وكان قد لبث أربعين سنة لم يوح إليه، ورأى رؤيا النبوة سنتين، ومات في شهر ربيع الأول وفيه هاجر.
وقال مقاتل: نزلت هذه السورة بعد فتح الطائف، والفتح فتح مكة، والناس أهل اليمن، وهي آية موت النبي صلى الله عليه وسلم فلما نزلت قرأها على أبي بكر وعمر ففرحا بالنصر وبدخول الناس أفواجًا في دين الله عز وجل، وسمعها العباس فبكى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما يبكيك يا عم؟» فقال: نعيت إليك نفسك، قال: «إنه لكما تقول».
وهذه السورة تسمى التوديع، عاش النبي بعدها حولًا على قول مقاتل، وحولين على قول ابن عباس، ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم من قابل، فنزل {اليوم أكملت لكم دينكم} الآية، فعاش بعدها ثمانين يومًا، ثم نزلت {لقد جاءكم رسول} فعاش بعدها خمسة وثلاثين يومًا، ثم نزلت {واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله} فعاش بعدها واحدًا وعشرين يومًا.
وقال مقاتل: عاش بعدها سبعة أيام، والله أعلم وصلوات الله عليه متتابعة لا تنقطع على مر الأزمان وكر الأوان، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين. اهـ.

.قال ابن عطية:

{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)}
قرأ ابن عباس: {إذا جاء نصر الله والفتح}، وسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه جمعًا من الصحابة الأشياخ وبالحضرة لابن عباس عن معنى هذه السورة وسببها، فقالوا كلهم بمقتضى ظاهر ألفاظها، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عند الفتوح التي فتحت عليه مكة وغيرها بأن يسبح ربه ويحمده ويستغفره، فقال لابن عباس: ما تقول أنت يا عبد الله؟ فقال: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله بقربه إذا رأى هذه الأشياء، فقال عمر ما أعلم منها إلا ما ذكرت، وهذا المنزع الذي ذكره ابن عباس ذكره ابن مسعود وأصحابه ومجاهد وقتادة والضحاك، وروت معناه عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنه عليه السلام لما فتحت مكة وأسلمت العرب جعل يكثر أن يقول «سبحان الله وبحمده، اللهم إني أستغفرك» يتأول القرآن في هذه السورة، وقال لها مرة: «ما أراه إلا حضور أجلي» وتأوله عمر والعباس بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصدقهما. و(النصر) الذي رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو غلبته لقريش ولهوازن وغير ذلك، {والفتح}: هو فتح مكة والطائف ومدن الحجاز وكثير من اليمن ودخول الناس في الإسلام {أفواجًا}، كان بين فتح مكة إلى موته صلى الله عليه وسلم، قال أبو عمر بن عبد البر النمري رحمه الله في كتاب الاستيعاب في الصحابة في باب أبي خراش الهذلي: لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي العرب رجل كافر، بل دخل الكل في الإسلام بعد حنين والطائف، منهم من قدم ومنهم من قدم وفده، ثم كان بعده من الردة ما كان ورجعوا كلهم إلى الدين.
قال القاضي أبو محمد: والمراد والله أعلم عرب عبدة الأوثان، وأما نصارة بني تغلب فما أراهم أسلموا قط في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن أعطوا الجزية، والأفواج: الجماعة أثر الجماعة، كما قال تعالى: {ألقي فيها فوج} [الملك: 8] وقال مقاتل: المراد بالناس أهل اليمن وفد منهم سبعمائة رجل، وقاله عكرمة، وقال الجمهور: المراد جميع وفود العرب لأنهم قالوا: إذا فتح الحرم لمحمد عليه السلام وقد حماه الله من الحبشة وغيرهم فليس لكم به يدان، وذكر جابر بن عبد الله فرقة الصحابة فبكى وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «دخل الناس في الدين أفواجًا وسيخرجون منه أفواجًا» وقوله: {إنه كان توابًا} يعقب ترجية عظيمة للمستغفرين، جعلنا الله منهم، وحكى النقاش عن ابن عباس أن (النصر) صلح الحديبية، وأن. فتح مكة، وقال ابن عمر: نزلت هذه السورة على النبي صلى الله عليه وسلم بمنى في وسط أيام التشريق في حجة الوداع وعاش بعدها ثمانين يومًا أو نحوها صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {إذا جاء نصر الله} أي: معونته على الأعداء.
والفتح: فتح مكة.
قال الحسن: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قالت العرب: أما إذ ظفر محمد بأهل الحرم، وقد أجارهم الله من أصحاب الفيل، فليس لكم به يدان فدخلوا في دين الله أفواجًا.
قال أبو عبيدة: والأفواج: جماعات في تفرقة.
قوله تعالى: {فسبح بحمد ربك} فيه قولان.
أحدهما: أنه الصلاة، قاله ابن عباس.
والثاني: التسبيح المعروف، قاله جماعة من المفسرين.
قال المفسرون: نُعِيَتْ إليه نفسُهُ بنزول هذه السورة، وأُعْلِم أنه قد اقترب أجله، فأُمر بالتسبيح والاستغفار ليختم له عمره بالزيادة في العمل الصالح.
قال ابن عباس: إذا جاء نصر الله والفتح: داعٍ من الله، وَوَدَاع من الدنيا.
قال قتادة: وعاش بعد نزول هذه السورة سنتين. اهـ.

.قال القرطبي:

{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)}
النصر: العَوْن؛ مأخوذ من قولهم: قد نَصَرَ الغيثُ الأرض: إذا أعان على نباتها، من قَحْطِها.
قال الشاعر:
إذا انسلخ الشهر الحرام فودِّعِي ** بلادَ تميمٍ وانْصُرِي أرض عامِرِ

ويروى:
إذا دخلَ الشهرُ الحرامُ فجاوِزِي ** بلادَ تميم وانصري أرضَ عامِرِ

يقال: نصره على عدوّه ينصره نصرًا؛ أي أعانه.
والاسم النُّصْرة.
واستنصره على عدوّه: أي سأله أن ينصره عليه.
وتناصروا: نصر بعضهم بعضًا.
ثم قيل: المراد بهذا النصر نصر الرسول على قريش؛ الطبريّ.
وقيل: نصره على من قاتله من الكفار؛ فإن عاقبة النصر كانت له.
وأما الفتح فهو فتح مكة؛ عن الحسن ومجاهد وغيرهما.
وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: هو فتح المدائن والقصور، وقيل: فتح سائر البلاد، وقيل: ما فتحه عليه من العلوم.
و(إذا) بمعنى قد؛ أي قد جاء نصر الله؛ لأن نزولها بعد الفتح. ويمكن أن يكون معناه؛ إذا يجيئك.
قوله تعالى: {وَرَأَيْتَ الناس} أي العرب وغيرهم.
{يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجًا} أي جماعات: فوجًا بعد فوج.
وذلك لما فتحت مكة قالت العرب: أمّا إذا ظفِر محمد بأهل الحرم، وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل، فليس لكم به يدان.
فكانوا يُسْلِمون أفْواجًا: أمّةً أمّةً.
قال الضحاك: والأمّة: أربعون رجلًا.
وقال عكرمة ومقاتل: أراد بالناس أهل اليمن.
وذلك أنه ورد من اليمن سبعمائة إنسان مؤمنين طائعين.
بعضهم يؤذنون، وبعضهم يقرؤون القرآن وبعضهم يُهَلِّلون؛ فسُرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، وبكى عمر وابن عباس.
ورَوى عكرمة عن ابن عباس: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ الله والفتح} وجاء أهل اليَمَنِ رَقيقةً أَفْئِدَتُهُمْ، لَيِّنةً طِباعهم، سَخِية قُلوبهم، عظيمةً خشيتُهم، فدخلوا في دين الله أفواجًا.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتاكم أهل اليمن، هم أضعف قلوبًا، وأرق أفئدة، الفِقه يَمَانٍ، والحكمة يَمَانِية».
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إني لأجدُ نَفَس ربكم مِن قِبلِ اليَمَنْ» وفيه تأويلان:
أحدهما: أنه الفرج؛ لتتابع إسلامهم أفواجًا.
والثاني: معناه أن الله تعالى نَفَّس الكرب عن نبيه صلى الله عليه وسلم بأهل اليمن، وهم الأنصار.
وروى جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس دخلوا في دين الله أفواجًا، وسيخرجون منه أفواجًا» ذكره الماورديّ، ولفظ الثعلبيّ: وقال أبو عمار حدّثني جار لجابر، قال: سألني جابر عن حال الناس، فأخبرته عن حال اختلافهم وفُرْقتهم؛ فجعل يبكي ويقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناسَ دَخَلُوا في دين الله أفواجًا، وسيَخْرُجونَ من دينِ اللَّهِ أَفْواجًا»
قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واستغفره}
أي إذا صليت فأكثر من ذلك.
وقيل: معنى سبح: صَلّ؛ عن ابن عباس.
{بِحَمْدِ ربك} أي حامدًا له على ما آتاك من الظفر والفتح.
{واسْتَغْفِرْهُ} أي سلِ الله الغفران.
وقيل: {فسبح} المراد به: التنزيه؛ أي نزهه عما لا يجوز عليه مع شكرك له.
{واسْتَغْفِرْه} أي سَلِ الله الغفران مع مداومة الذكر.
والأوّل أظهر.
روى الأئمة (واللفظ للبخاريّ) عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة بعد أن نزلت عليه سورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ الله والفتح} إلا يقول: «سُبْحانَكَ رَبَّنا وبِحَمْدك، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي» وعنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكْثر أن يقول في ركوعه وسجوده: «سُبحانكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وبِحَمدِك، اللَّهُمَّ اغفِرْ لِي». يتأوّل القرآن.
وفي غير الصحيح: وقالت أمّ سَلَمة: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يجيء ولا يذهب إلا قال: «سُبْحانَ اللَّهِ وبحمدِهِ، أسْتَغْفِرُ اللَّهَ وأَتُوبُ إليه قال فإنّي أُمِرت بها ثم قرأ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ الله والفتح}». إلى آخرها.
وقال أبو هريرة: اجتهدَ النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد نزولها، حتى تَوَرَّمت قدماه، ونَحَل جسمه، وقل تبسمه، وكثر بكاؤه.
وقال عِكرمة: لم يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَطُّ أشد اجتهادًا في أمور الآخرة ما كان منه عند نزولها.
وقال مقاتل: لما نزلت قرأها النبيّ صلى الله عليه وسلم على أصحابه، ومنهم أبو بكر وعمر وسعد بن أبي وقاص، ففرِحوا واستبشروا، وبكى العباس؛ فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما يُبْكيكَ يا عَمُّ؟» قال: نُعِيَتْ إليكَ نَفْسُك.
قال: «إنه لكما تقول»؛ فعاش بعدها ستين يومًا، ما رُئِي فيها ضاحكًا مستبشرًا.
وقيل: نزلت في مِنًى بعد أيام التشريق، في حِجة الوداع، فبكى عُمر والعباس، فقيل لهما: إن هذا يوم فرح، فقالا: بل فيه نَعْي النبيّ صلى الله عليه وسلم.
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «صَدَقتما، نُعِيت إلى نفسي» وفي البخاريّ وغيره عن ابن عباس قال: كان عمر بن الخطاب يأذن لأهل بدر، ويأذن لي معهم.
قال: فوجِد بعضهم من ذلك، فقالوا: يأذن لهذا الفتى معنا ومن أبنائنا من هو مثله! فقال لهم عمر: إنه من قد علمتم.
قال: فأذن لهم ذات يوم، وأذن لي معهم، فسألهم عن هذه السورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ الله والفتح} فقالوا: أمر الله جل وعز نبيه صلى الله عليه وسلم إذا فتح عليه أن يستغفره، وأن يتوب إليه.
فقال: ما تقول يا ابن عباس؟
قلت: ليس كذلك، ولكن أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم حضورَ أجله، فقال: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ الله والفتح}، فذلك علامة موتك.
{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واستغفره إِنَّهُ كَانَ تَوَّابَا}.
فقال عمر رضي الله عنه: تلومونني عليه؟ وفي البخاريّ فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول.
ورواه الترمذيّ، قال: كان عمر يسألني مع أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال له عبد الرحمن بن عوف: أتسأله ولنا بنون مثله؟ فقال له عمر: إنه من حيث نعلم.
فسأله عن هذه الآية: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ الله والفتح}.
فقلت: إنما هو أجل رسوِل الله صلى الله عليه وسلم، أعلمه إياه؛ وقرأ السورة إلى آخرها.
فقال له عمر: والله ما أعلم منها إلا ما تعلم.
قال: هذا حديث حسن صحيح.
فإن قيل: فماذا يغفر للنبيّ صلى الله عليه وسلم حتى يؤمر بالاستغفار؟ قيل له: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: «رَبِّ اغفرْ لِي خَطيئتَي وجَهْلِي، وإسْرافِي في أَمْرِي كُلِّه، وما أنت أعلم به مني.
اللهم اغفْر لي خَطَئي وعَمْدِي، وجهلِي وهَزْلي، وكل ذلك عندي. اللهم اغفر لي ما قدّمت وما أخرتُ، وما أعلَنْت وما أسْرَرْت، أنت المقدِّم وأنت المُوَخِّر، إنكَ على كلِّ شيءٍ قَدِير»
فكان صلى الله عليه وسلم يستقصر نفسه لعظم ما أنعم الله به عليه، ويرى قصوره عن القيام بحق ذلك ذُنُوبًا.
ويحتمل أن يكون بمعنى: كُنْ متعَلقًا به، سائلًا راغبًا، متضرعًا على رؤية التقصير في أداء الحقوق؛ لئلا ينقطع إلى رؤية الأعمال.
وقيل: الاستغفار تَعَبُّد يجب إتيانه، لا للمغفرة، بل تعبدًا.
وقيل: ذلك تنبيه لأمته، لكيلا يأمنوا ويتركوا الاستغفار.
وقيل: {واستغفره} أي استغفر لأمتك.
{إِنَّهُ كَانَ تَوَّابَا}: أي على المسبحين والمستغفرين، يتوب عليهم ويرحمهم، ويقبل توبتهم.
وإذا كان عليه السلام وهو معصوم يؤمر بالاستغفار، فما الظن بغيره؟ روى مسلم عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكْثر من قول: «سُبحَانَ اللَّهِ وبِحَمْدِهِ، أسْتغفِرُ اللَّهَ وأَتُوبُ إليهِ».
قالت: فقلت يا رسول الله، أراك تكثر من قول «سُبْحان اللَّهِ وبِحَمْدِه، أستغفر الله وأتوب إليه»؟ فقال: «خَبَّرَنِي رَبِّي أني سأرى علامة في أمتي، فإذا رأَيتها أكثرت من قول سُبْحان اللَّهِ وبِحَمْدِهِ، أستغفر الله وأتوب إليه، فقد رأيتها: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ الله والفتح} فتح مكة {وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واستغفره إِنَّهُ كَانَ تَوَّابَا}». وقال ابن عمر: نزلت هذه السورة بِمِنًى في حِجَّة الوداع، ثم نزلت {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] فعاش بعدهما النبي صلى الله عليه وسلم ثمانين يومًا. ثم نزلت آية الكَلاَلة، فعاش بعدها خمسين يومًا. ثم نزل: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة: 128] فعاش بعدها خمسة وثلاثين يومًا. ثم نزل {واتقوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله} [البقرة: 281] فعاش بعدها أحدا وعشرين يومًا.
وقال مقاتل سبعة أيام، وقيل غير هذا مما تقدّم في (البقرة) بيانه، والحمد لله. اهـ.